سمع زئير صوت الطباشير ينبعث من بين اصابع المعلم وهو يزمجر
على السبورة .. يلتفت المعلم بسرعة .. يسمع صوت أنفاس
تتردد .. يحملق بعينيه نحو أطفال بعمر الزهور فتجفل قلوبهم كما
يجفل خشف تاه عن أمه وهو يسمع وقع أقدام وحش مفترس يريد
أن ينقض عليه..!!
المعلم صوته مثل الرعد القاصف .. إنه يشرح فكرة أو يكتب جملة
ولكني لم أدرك منه إلا أنه يحرك شفتيه وأظن أنه بعد قليل ستخرج من بين أسنانه ناراً محرقة كما الديناصور .. وعندما كان
ينظر إلي كنت أشعر أن برقا خاطفاً يكاد يخطف بصري ينبعث من عينيه..
وعندما كان ينتهي من الدرس يقول لنا عليكم أن تكتبوا وتحفظوا
لدرس ومن لا يكتب ســ ســ ســـ ســ ســــ متوعدا ومهددا مزمجرا كأنه الأسد في بطون الغاب..
كانت أسعد اللحظات وأمتعها عندما يقرع الجرس مؤذناً بخروج
المعلم من الصف فننعتق من أسره وسجنه لنا فنخرج بعفوية
وتلقائية متزاحمين على الخروج من باب الفصل ونحن نصرخ كل
مخزون الصراخ المكتظ في أحشائنا نصرخ بصوت صاخب ولم نكن
ندري لماذا كنت فترة الخروج تلهمنا حالة الهستيريا هذه .. ولكن
كنا نشعر برضى وسعادة عندما نصرخ..!!
كنا نلجم وننخرس عندما يخرجنا المعلم ويسمّع الدرس ويسألنا
فيصيبنا العيّ والشلل في النطق .. ونشعر أن الأبجدية تتوه من
أيدينا فنقف مدهوشين كالبلهى وعندما نعود إلى مقاعدنا كنا نتذكر
الأجوبة الهاربة فلا ندري أين خانتنا عندما استدعانا المعلم للمساءلة ..؟
وعندما نقف بحالة الذهول المعهودة تلك كان المعلم يمطرنا بوابل
من التخذيل والشتم والسخرية والانتقاص هذا غير الصراخ
ونظرات الشزر والشرر المخيفة التي نكاد لهولها أن نسقط صرعى..!!
كان كل هم المعلم أن نحفظ الدرس وكل همه أن نكتب الوظيفة
وكل همه أن لا نتنفس ولا ننبس ببنت شفة فدائماً كان يأمرنا أن
نتكتف .. فالكلام ممنوع والهمس ممنوع والالتفات ممنوع والاسترخاء
ممنوع والسؤال ممنوع والتبسم ممنوع وقائمة الممنوعات كثيرة
كان يعطينا الدرس وهو يجلس على الكرسي وأمامه الطاولة لأنه
كان يرى أن كثرة الحركة تقلل من قيمة الشخص .. وكان لا يبتسم
أبدا لأنه يرى أن التبسم يقلل من هيبة الشخص .. وكان لا يمزح
لأن المزاح يغري الآخرين بالتطاول على المازح ... وكان يعتبر أن
الطالب لا يفهم إذا لم يعاقب فالعقوبة هي أهم وسيلة للتعلم
ويقول بأن العصا نزلت من الجنة .. ولا يمدح طالبا لأنه يعتبر أن
المديح يفسد الطالب ويجعله يتمرد وبالتالي يهمل في واجباته
التعليمية .. وكان يعتبر أن الطلاب اليوم ليسوا كالطلاب أيام زمان
حيث كان الأهل يأتون إلى المعلم ويقولون له لك اللحم ولنا
العظم ..! ويظل المعلم يهري باللحم حتى يرى العظم..!!
وفي الحقيقة إن هذه الصورة للمعلم يمكن أنها جعلت الطالب
يحفظ رغما عنه ويكسب معلموه ولكنها جعلته يخسر شخصيته
وحريته وجعلته جبانا رغما عنه وضعيفا رغما عنه ومترددا رغما
عنه .. عن هذا الأسلوب المتوحش جعلت يكره العلم والتعلم وكان
همه العلامات حتى مات .. من قال بأن العلم لا يتحصل إلا
بالخوف ..؟؟!!
أين الحب أين الرحمة .. إن الملائكة تتواضع لطالب العلم .. وإن
الله أدب نبيه قائلا له : فبما رحمت من الله لنت لهم ولو كنت فضاً
غليظ القلب لنفضوا من حولك
هذا حال معلم الإنسانية .. فبمن نقتدي نحن إذاً ..؟