[url=]
في عالمنا اليوم يُعرّفون التخطيط بأنه يعني الإجابة على أسئلة ثلاثة، هي:
أين نحن؟ وإلى أين نريد أن نذهب؟ وكيف سنصل إلى هناك؟
ويقسمونه إلى تخطيط إستراتيجي طويل المدى يعنى بالعموميات، مثل: من نحن؟ وماذا نمثل؟ وكيف يمكننا الاستمرار؟ وتخطيط تكتيكي قصير المدى يدعم التخطيط الإستراتيجي، ويُعنى بالتفاصيل وآلية التنفيذ والوقت المتاح للإنجاز.
فهل هذه المعاني كانت حاضرة في ذهنه صلى الله عليه وسلم وهو يفكر في الهجرة؟
هذا ما نحاول التعرف عليه.
لقد كان التخطيط الإستراتيجي واضحًا في فكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يترسم خطاه وسط الأمواج العاتية في جزيرة العرب، وملامح هذا التخطيط الإستراتيجي هي:
تحديد الرسالة:
من نحن؟ وما الهدف من وجودنا؟ وما المشكلات التي تواجهنا؟
كان الهدف واضحًا، وهو الحصول على بقعة أرض يُقام فيها مجتمع وتؤسس فيها دولة، وتنطلق منها الدعوة إلى الآفاق، وكانت العقبة الكئود أمام تحقيق هذا الأمر هو عناد واستكبار مشركي قريش وصدهم عن سبيل الله.
تقييم البيئة المحيطة:
كانت البيئة في مكة لا تصلح لإتمام هذا الأمر؛ فمقاومة المشركين للإسلام تزداد شراسة يومًا بعد يوم، وقلوبهم كالحجارة بل أشد قسوة؛ فهل تُغنِي مخاطبة الحجارة؟!
لقد وصل تقدم الدعوة في مكة إلى طريق مسدود، ولم تعد هناك فائدة من تكرار المحاولة.
وكان لا بد أن تكون الأرض المنشودة أرضًا عربية؛ لأنه لا يمكن أن يقوم لهذا الدين كيان إلا في ظل مجتمع عربي يتكلم العربية، ويفهم القرآن كتاب الله المعجز، خصوصًا حَمَلة الرسالة الأولين.
فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مدينة الطائف راجيًا من أهلها الاستجابة وهم لهم مقام رفيع بين العرب، ولم يكن جوابهم أقل سوءًا من إخوانهم مشركي مكة.
وكان يغشى المواسم ويأتي الأسواق كعكاظ ومجنة وذي المجاز.
وكانت الاستفادة من وجوده في مكة وهي محج العرب يفدون إليها من كل مكان، ومحاولة الالتقاء بوفود القبائل، وعرض الإسلام عليهم، بل وكان يتبع منازلهم عسى أن يستجيب مستجيب؛ فينال الشرف العظيم.
وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن المشكلة في رفض القبائل له هو طلب النصرة والحماية لحرصها على رضاء قريش، ولما يعنيه ذلك من حرب الأسود والأحمر؛ فلم يطلبه من أهل يثرب في أول الأمر حتى أطلعه مصعب على نتيجة عمله.
استعراض الموارد:
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يبحث فيه عن مكان آخر يدرك أن في قريش من الإمكانات ما ينبغي الاستفادة منه لخدمة الدعوة، وهو يريد أن يدخر هذه الإمكانات والطاقات للمستقبل؛ لذلك عندما جاءه جبريل ومعه ملك الجبال -بعد خروجه من الطائف- يستأمره في أن يطبق على أهل مكة الأخشبين، قال: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا" (من حديث رواه البخاري).
وهذه قمة بُعد النظر، أن تدخر أعداءك للاستفادة منهم مستقبلاً، ولولا ذلك لما وُجد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو... وغيرهم كثير، كما أن أهل الطائف أصبحوا بعد إسلامهم أشد القبائل العربية دفاعًا عن الإسلام، وجرت على أيديهم الفتوحات.
وكانت طاقات المسلمين وإمكاناتهم مبعثرة أو معطلة، وكانت الحاجة لمكان تتجمع فيه هذه الطاقات البشرية وتتفجر فتقوى شوكتهم ويكثر سوادهم؛ لذلك كان الأمر لجميع المسلمين بالهجرة -فيما بعد- لإمداد الدولة الوليدة بالطاقات البشرية والكفاءات الكفيلة بمواجهة أعداء الإسلام.
طرح البدائل وتحديد الخيار:
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ما الإسلام، وماذا يريد، ويدرك البيئة والصعوبات المحيطة به، ويطرح البدائل في ضوء الرؤية الإستراتيجية الواضحة.
إما المكوث بمكة وهو يعني النفخ في قِربة مثقوبة، وإما الخروج للبحث عن مكان جديد، واستمر في البحث عن البديل حتى جاءت نسمات يثرب.
التدرج في الخطوات:
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجل خطواته، ولا يقطف الثمرة قبل أوانها؛ فقد كان القوم يلاقون الأهوال من بطش قريش، ومع هذا لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بحمل السلاح؛ فهو يعلم أنه إن رفع سلاحًا فإن المشركين سيجتثون المسلمين عن بكرة أبيهم، وقد رأيناه كيف تدرج في خطواته مع أهل يثرب؛ فقد طلب منهم أولاً أن يُسْلموا ويصدقوا وينظروا في قومهم، وبعد سنة بايعهم على ما لا خلاف عليه من أخلاق وفضائل، وأجّل طلب حمايته ونصرته، وأرسل معهم مصعبًا ليتلو عليهم القرآن، وينظر في توقيت طلب النصرة منهم، وبعد سنتين طلب منهم البيعة على قدومه وحمايته، وجعل نقباءهم من أنفسهم، بعد أن أصبحت الأرضية جاهزة لبناء دولة الإسلام.
وضوح الرؤية:
وقد وضحت الرؤية باستجابة أهل يثرب، وبتأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من إخلاصهم لربهم، واستعدادهم لحمايته، وحماسهم لإقامة دولة الإسلام.
فكانت يثرب هي الوجهة، وهي أنسب مكان لبناء الدولة، وأصبحت مأرز الإيمان وموطن الإسلام.
وهكذا فقد عرف محمد صلى الله عليه وسلم طريقه وأدرك غايته، بما أوتي من فكر ثاقب، وإستراتيجية واضحة، ومعرفة بالواقع، وخطوات محسوبة، وقبل كل ذلك تأييد من الله..
ولم يبقَ إلا العمل.
كانت رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم جلية، وإستراتيجيته واضحة، وهي الذهاب إلى المدينة لإقامة الدولة الإسلامية؛ لأنه بدون دولة لن يكون هناك إسلام، ولن تكون هناك دعوة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر الإذن بالتنفيذ، فجاءه الوحي بالإذن للخروج وبداية العمل، وكانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها الرسول بفارغ الصبر.
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ليرسما معالم خطة الهجرة، وما الخطة إلا هدف، ووسائل لتحقيقه، ووقت لتنفيذه؛ فكانت معالم الخطة كالتالي:
أما الهدف فواضح بيِّن، ولكن كيف السبيل والمشركون يتربصون؟
- وكان القرار بمبيت "علي" في فراشه صلى الله عليه وسلم لإيهامهم بأنه النبي، وإشغالهم بذلك ريثما يتمكن النبي وأبو بكر من الابتعاد عن مكة والوصول إلى غار ثور.
- ثم الخروج من دار أبي بكر باتجاه الجنوب؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن أهل مكة سيقلبون الأرض بحثًا عنه، فاختار طريق اليمن جنوبًا، بدلاً من الطريق الشمالي إلى يثرب.
- وحددا غار ثور مكانًا للمكوث فيه 3 أيام حتى تخف حدة المطاردة، وواعدا الدليل أن يأتيهما هناك، ومعه الراحلتان اللتان جهزهما أبو بكر.
- وبعد ذلك يتم التوجه بصحبة الدليل الماهر عبر طريق وعر غير متوقع إلى المدينة.
هذه هي الخطوط العريضة للخطة التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه قبل خروجهما، وتم تشكيل فريق العمل، وتوزعت المهام كالتالي:
الرفيق والصاحب والمستشار والمدير والمنفذ.
- التمويه: بأن ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة ليوهم المتآمرين بأنه النبي.
- رد الأمانات: فنحن أصحاب رسالة، وهيهات أن ننسى مبادئنا في حمأة صراعنا مع أعدائنا.
العين التي تعرف أخبار قريش، وتوصلها إلى الرفيقين في الغار، وكان يأتيهما بعد حلول الظلام، ويبيت عندهما، ثم يدلج بسحر.
- توفير الغذاء: بأن يأتي بالغنم، فيريحهما على مقربة من الغار، فيحلب منها الرفيقان.
- التغطية على آثار ابن أبي بكر: بأن يتبع بغنمه أثره.
إعداد سفرة الطعام التي سيقتات عليها المسافران في الطريق الطويل.
الدليل الماهر الأمين الذي سيأتي في موعده بعد 3 أيام ومعه الراحلتان.
ويلاحظ في هذه التشكيلة مدى الدقة في الاختيار، والاعتماد على أصحاب الكفاءات والثقات؛ فقد اختير كل فرد بعناية، ووُضع في المكان المناسب له تمامًا؛ فالأمر ليس هينًا، إنه أمر بقاء الإسلام أو فنائه.
خطة ذكية، وتفصيل مدروس، وسرية تامة، وفريق عمل ماهر، وحماسة للعمل، وتنفيذ دقيق؛ فقد عرف كل شخص دوره، وأدى مهمته، وكان التنفيذ محكمًا، والأداء رائعًا، ولم يُترَك شيء للصدفة.. ولم يبقَ إلا أن تتنزل رحمات الله.
لقد رأينا كيف خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفذ واستفاد من كل الطاقات والإمكانات المتاحة حوله؛ ليعلمنا أن الإسلام دين العمل والجد والأخذ بالأسباب، وكيف تدخل الفعل الإلهي لنصرته؛ ليعلمنا الله أنه مهما أخذنا بأسباب القوة والنصر، فنحن ضعفاء بدونه لا حول لنا ولا قوة.
وهكذا تسير هذه الثنائية في حياتنا، بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، بين الإرادة الإلهية والإدارة البشرية، بين تدبير الإله وتفكير العبد؛ فإذا أهملنا الاعتماد على الله، وظننا أن قوتنا كفيلة بضمان تفوقنا خبنا وخسرنا، وإذا أهملنا الأخذ بالأسباب، وجلسنا في بيوتنا ندعو الله أن ينصرنا ويزلزل الأرض من تحت أعدائنا.. فلن يزيدنا الله إلا خسرانا.
"إن الرسول صلى الله عليه وسلم ظل قلبه يخفق بدعاء الله وهو يرسم الخطط، ويضع الضمانات، ويهيئ الموارد والإمكانات والدفوع الكفيلة بإيصاله إلى هدفه. لم يجئ هذا الدعاء قبل التخطيط فحسب، ولا جاء بعده فحسب؛ فليس في علاقة الإرادة البشرية بالمشيئة الإلهية خلال الحدث قبلية ولا بعدية، وإنما تسير الاثنتان في انسجام رائع؛ لأن هذه من تلك؛ ولأن الإنسان في أصغر جزئيات الحركة وفي أكبرها إنما ينفذ قَدَر الله وناموسه في الأرض في مدى الحرية التي أتيحت له.
أما أن يجيء الدعاء والتوجه قبل التخطيط فحسب، أو بعد التنفيذ فحسب؛ فهو من قبيل الثنائيات التي ترفضها مبادئ السماء أشد الرفض؛ لأنها تفصل بين الله والإنسان، وتقسم حظ الطرفين في حركة التاريخ بما لا يتفق أساسًا والسنن الكبرى.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم هيّأ الأسباب الكاملة لنجاح الحركة وهو ينظر إلى الله، ووضع خطواته الأولى على الدرب وهو يدعو الله، وما لبثت الأسباب أن آتت أُكُلها والخطوات أن انتهت إلى هدفها، وظل الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الله ويدعوه، وما أحرانا في يوم هجرته أن نتمعن في هذه التعاليم في زمن طغت فيه التفاسير والأهواء، وكلٌّ قال ما عنده، شرقيًّا كان أو غربيًّا، لكن المسلمين لم يقولوا بعدُ كلَّ ما عندهم". (عماد الدين خليل: خطوات في طريق الهجرة).
فكيف بحال أمة هي خير أمة أخرجت للناس، آتاها الله أفضل كتاب وخير منهج فلم تتبعه، وآتاها أفضل الثروات وخير الإمكانات فأعطتها لأعدائها!
وأخيرًا:
هذه هي الهجرة، وهذه دروسها، وهذه نظرتنا إليها، لها انتسب التاريخ، ولها انتسب المسلمون، ولها انتسبت سور القرآن، ولها انتسب الصحابة، ولها انتسبت دولة الإسلام.
"فعفوًا رسول الله إن قصرنا أو أخطأنا ونحن نتحدث عنك في يوم هجرتك حديث المحبين الذين تحاصرهم القيود في كل مكان، وتسعى إلى سحق مطامحهم ظلمات بعضها فوق بعض؛ فيلجئون إليك مؤمِّلين أن تمنحهم المزيد من التعاليم، كسرًا ثوريًّا للقيد، واستعلاءً روحيًّا على الظلمات، وحركة إيجابية صوب المصير الفذ المتفرد.
وما أحرى الهجرة أن تكون هذا الدرس..
وألف سلام على المهاجر .. معلمِنا العظيم" (عماد الدين خليل: خطوات في طريق الهجرة).
[/url]
في عالمنا اليوم يُعرّفون التخطيط بأنه يعني الإجابة على أسئلة ثلاثة، هي:
أين نحن؟ وإلى أين نريد أن نذهب؟ وكيف سنصل إلى هناك؟
ويقسمونه إلى تخطيط إستراتيجي طويل المدى يعنى بالعموميات، مثل: من نحن؟ وماذا نمثل؟ وكيف يمكننا الاستمرار؟ وتخطيط تكتيكي قصير المدى يدعم التخطيط الإستراتيجي، ويُعنى بالتفاصيل وآلية التنفيذ والوقت المتاح للإنجاز.
فهل هذه المعاني كانت حاضرة في ذهنه صلى الله عليه وسلم وهو يفكر في الهجرة؟
هذا ما نحاول التعرف عليه.
إستراتيجية الهجرة
لقد كان التخطيط الإستراتيجي واضحًا في فكر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يترسم خطاه وسط الأمواج العاتية في جزيرة العرب، وملامح هذا التخطيط الإستراتيجي هي:
تحديد الرسالة:
من نحن؟ وما الهدف من وجودنا؟ وما المشكلات التي تواجهنا؟
كان الهدف واضحًا، وهو الحصول على بقعة أرض يُقام فيها مجتمع وتؤسس فيها دولة، وتنطلق منها الدعوة إلى الآفاق، وكانت العقبة الكئود أمام تحقيق هذا الأمر هو عناد واستكبار مشركي قريش وصدهم عن سبيل الله.
تقييم البيئة المحيطة:
كانت البيئة في مكة لا تصلح لإتمام هذا الأمر؛ فمقاومة المشركين للإسلام تزداد شراسة يومًا بعد يوم، وقلوبهم كالحجارة بل أشد قسوة؛ فهل تُغنِي مخاطبة الحجارة؟!
لقد وصل تقدم الدعوة في مكة إلى طريق مسدود، ولم تعد هناك فائدة من تكرار المحاولة.
وكان لا بد أن تكون الأرض المنشودة أرضًا عربية؛ لأنه لا يمكن أن يقوم لهذا الدين كيان إلا في ظل مجتمع عربي يتكلم العربية، ويفهم القرآن كتاب الله المعجز، خصوصًا حَمَلة الرسالة الأولين.
فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مدينة الطائف راجيًا من أهلها الاستجابة وهم لهم مقام رفيع بين العرب، ولم يكن جوابهم أقل سوءًا من إخوانهم مشركي مكة.
وكان يغشى المواسم ويأتي الأسواق كعكاظ ومجنة وذي المجاز.
وكانت الاستفادة من وجوده في مكة وهي محج العرب يفدون إليها من كل مكان، ومحاولة الالتقاء بوفود القبائل، وعرض الإسلام عليهم، بل وكان يتبع منازلهم عسى أن يستجيب مستجيب؛ فينال الشرف العظيم.
وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن المشكلة في رفض القبائل له هو طلب النصرة والحماية لحرصها على رضاء قريش، ولما يعنيه ذلك من حرب الأسود والأحمر؛ فلم يطلبه من أهل يثرب في أول الأمر حتى أطلعه مصعب على نتيجة عمله.
استعراض الموارد:
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يبحث فيه عن مكان آخر يدرك أن في قريش من الإمكانات ما ينبغي الاستفادة منه لخدمة الدعوة، وهو يريد أن يدخر هذه الإمكانات والطاقات للمستقبل؛ لذلك عندما جاءه جبريل ومعه ملك الجبال -بعد خروجه من الطائف- يستأمره في أن يطبق على أهل مكة الأخشبين، قال: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا" (من حديث رواه البخاري).
وهذه قمة بُعد النظر، أن تدخر أعداءك للاستفادة منهم مستقبلاً، ولولا ذلك لما وُجد خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو... وغيرهم كثير، كما أن أهل الطائف أصبحوا بعد إسلامهم أشد القبائل العربية دفاعًا عن الإسلام، وجرت على أيديهم الفتوحات.
وكانت طاقات المسلمين وإمكاناتهم مبعثرة أو معطلة، وكانت الحاجة لمكان تتجمع فيه هذه الطاقات البشرية وتتفجر فتقوى شوكتهم ويكثر سوادهم؛ لذلك كان الأمر لجميع المسلمين بالهجرة -فيما بعد- لإمداد الدولة الوليدة بالطاقات البشرية والكفاءات الكفيلة بمواجهة أعداء الإسلام.
طرح البدائل وتحديد الخيار:
لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف ما الإسلام، وماذا يريد، ويدرك البيئة والصعوبات المحيطة به، ويطرح البدائل في ضوء الرؤية الإستراتيجية الواضحة.
إما المكوث بمكة وهو يعني النفخ في قِربة مثقوبة، وإما الخروج للبحث عن مكان جديد، واستمر في البحث عن البديل حتى جاءت نسمات يثرب.
التدرج في الخطوات:
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجل خطواته، ولا يقطف الثمرة قبل أوانها؛ فقد كان القوم يلاقون الأهوال من بطش قريش، ومع هذا لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بحمل السلاح؛ فهو يعلم أنه إن رفع سلاحًا فإن المشركين سيجتثون المسلمين عن بكرة أبيهم، وقد رأيناه كيف تدرج في خطواته مع أهل يثرب؛ فقد طلب منهم أولاً أن يُسْلموا ويصدقوا وينظروا في قومهم، وبعد سنة بايعهم على ما لا خلاف عليه من أخلاق وفضائل، وأجّل طلب حمايته ونصرته، وأرسل معهم مصعبًا ليتلو عليهم القرآن، وينظر في توقيت طلب النصرة منهم، وبعد سنتين طلب منهم البيعة على قدومه وحمايته، وجعل نقباءهم من أنفسهم، بعد أن أصبحت الأرضية جاهزة لبناء دولة الإسلام.
وضوح الرؤية:
وقد وضحت الرؤية باستجابة أهل يثرب، وبتأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من إخلاصهم لربهم، واستعدادهم لحمايته، وحماسهم لإقامة دولة الإسلام.
فكانت يثرب هي الوجهة، وهي أنسب مكان لبناء الدولة، وأصبحت مأرز الإيمان وموطن الإسلام.
وهكذا فقد عرف محمد صلى الله عليه وسلم طريقه وأدرك غايته، بما أوتي من فكر ثاقب، وإستراتيجية واضحة، ومعرفة بالواقع، وخطوات محسوبة، وقبل كل ذلك تأييد من الله..
ولم يبقَ إلا العمل.
خطة الهجرة
كانت رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم جلية، وإستراتيجيته واضحة، وهي الذهاب إلى المدينة لإقامة الدولة الإسلامية؛ لأنه بدون دولة لن يكون هناك إسلام، ولن تكون هناك دعوة.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم ينتظر الإذن بالتنفيذ، فجاءه الوحي بالإذن للخروج وبداية العمل، وكانت هذه هي اللحظة التي ينتظرها الرسول بفارغ الصبر.
جلس الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ليرسما معالم خطة الهجرة، وما الخطة إلا هدف، ووسائل لتحقيقه، ووقت لتنفيذه؛ فكانت معالم الخطة كالتالي:
أما الهدف فواضح بيِّن، ولكن كيف السبيل والمشركون يتربصون؟
- وكان القرار بمبيت "علي" في فراشه صلى الله عليه وسلم لإيهامهم بأنه النبي، وإشغالهم بذلك ريثما يتمكن النبي وأبو بكر من الابتعاد عن مكة والوصول إلى غار ثور.
- ثم الخروج من دار أبي بكر باتجاه الجنوب؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن أهل مكة سيقلبون الأرض بحثًا عنه، فاختار طريق اليمن جنوبًا، بدلاً من الطريق الشمالي إلى يثرب.
- وحددا غار ثور مكانًا للمكوث فيه 3 أيام حتى تخف حدة المطاردة، وواعدا الدليل أن يأتيهما هناك، ومعه الراحلتان اللتان جهزهما أبو بكر.
- وبعد ذلك يتم التوجه بصحبة الدليل الماهر عبر طريق وعر غير متوقع إلى المدينة.
هذه هي الخطوط العريضة للخطة التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه قبل خروجهما، وتم تشكيل فريق العمل، وتوزعت المهام كالتالي:
الرفيق والصاحب والمستشار والمدير والمنفذ.
أبو بكر الصديق
- التمويه: بأن ينام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة ليوهم المتآمرين بأنه النبي.
- رد الأمانات: فنحن أصحاب رسالة، وهيهات أن ننسى مبادئنا في حمأة صراعنا مع أعدائنا.
علي بن أبي طالب
العين التي تعرف أخبار قريش، وتوصلها إلى الرفيقين في الغار، وكان يأتيهما بعد حلول الظلام، ويبيت عندهما، ثم يدلج بسحر.
عبد الله بن أبي بكر
- توفير الغذاء: بأن يأتي بالغنم، فيريحهما على مقربة من الغار، فيحلب منها الرفيقان.
- التغطية على آثار ابن أبي بكر: بأن يتبع بغنمه أثره.
عامر بن فهيرة
إعداد سفرة الطعام التي سيقتات عليها المسافران في الطريق الطويل.
أسماء بنت أبي بكر
الدليل الماهر الأمين الذي سيأتي في موعده بعد 3 أيام ومعه الراحلتان.
عبد الله بن أريقط
ويلاحظ في هذه التشكيلة مدى الدقة في الاختيار، والاعتماد على أصحاب الكفاءات والثقات؛ فقد اختير كل فرد بعناية، ووُضع في المكان المناسب له تمامًا؛ فالأمر ليس هينًا، إنه أمر بقاء الإسلام أو فنائه.
خطة ذكية، وتفصيل مدروس، وسرية تامة، وفريق عمل ماهر، وحماسة للعمل، وتنفيذ دقيق؛ فقد عرف كل شخص دوره، وأدى مهمته، وكان التنفيذ محكمًا، والأداء رائعًا، ولم يُترَك شيء للصدفة.. ولم يبقَ إلا أن تتنزل رحمات الله.
القدرة الإلهية والجهد البشري
لقد رأينا كيف خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفذ واستفاد من كل الطاقات والإمكانات المتاحة حوله؛ ليعلمنا أن الإسلام دين العمل والجد والأخذ بالأسباب، وكيف تدخل الفعل الإلهي لنصرته؛ ليعلمنا الله أنه مهما أخذنا بأسباب القوة والنصر، فنحن ضعفاء بدونه لا حول لنا ولا قوة.
وهكذا تسير هذه الثنائية في حياتنا، بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب، بين الإرادة الإلهية والإدارة البشرية، بين تدبير الإله وتفكير العبد؛ فإذا أهملنا الاعتماد على الله، وظننا أن قوتنا كفيلة بضمان تفوقنا خبنا وخسرنا، وإذا أهملنا الأخذ بالأسباب، وجلسنا في بيوتنا ندعو الله أن ينصرنا ويزلزل الأرض من تحت أعدائنا.. فلن يزيدنا الله إلا خسرانا.
"إن الرسول صلى الله عليه وسلم ظل قلبه يخفق بدعاء الله وهو يرسم الخطط، ويضع الضمانات، ويهيئ الموارد والإمكانات والدفوع الكفيلة بإيصاله إلى هدفه. لم يجئ هذا الدعاء قبل التخطيط فحسب، ولا جاء بعده فحسب؛ فليس في علاقة الإرادة البشرية بالمشيئة الإلهية خلال الحدث قبلية ولا بعدية، وإنما تسير الاثنتان في انسجام رائع؛ لأن هذه من تلك؛ ولأن الإنسان في أصغر جزئيات الحركة وفي أكبرها إنما ينفذ قَدَر الله وناموسه في الأرض في مدى الحرية التي أتيحت له.
أما أن يجيء الدعاء والتوجه قبل التخطيط فحسب، أو بعد التنفيذ فحسب؛ فهو من قبيل الثنائيات التي ترفضها مبادئ السماء أشد الرفض؛ لأنها تفصل بين الله والإنسان، وتقسم حظ الطرفين في حركة التاريخ بما لا يتفق أساسًا والسنن الكبرى.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم هيّأ الأسباب الكاملة لنجاح الحركة وهو ينظر إلى الله، ووضع خطواته الأولى على الدرب وهو يدعو الله، وما لبثت الأسباب أن آتت أُكُلها والخطوات أن انتهت إلى هدفها، وظل الرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إلى الله ويدعوه، وما أحرانا في يوم هجرته أن نتمعن في هذه التعاليم في زمن طغت فيه التفاسير والأهواء، وكلٌّ قال ما عنده، شرقيًّا كان أو غربيًّا، لكن المسلمين لم يقولوا بعدُ كلَّ ما عندهم". (عماد الدين خليل: خطوات في طريق الهجرة).
فكيف بحال أمة هي خير أمة أخرجت للناس، آتاها الله أفضل كتاب وخير منهج فلم تتبعه، وآتاها أفضل الثروات وخير الإمكانات فأعطتها لأعدائها!
وأخيرًا:
هذه هي الهجرة، وهذه دروسها، وهذه نظرتنا إليها، لها انتسب التاريخ، ولها انتسب المسلمون، ولها انتسبت سور القرآن، ولها انتسب الصحابة، ولها انتسبت دولة الإسلام.
"فعفوًا رسول الله إن قصرنا أو أخطأنا ونحن نتحدث عنك في يوم هجرتك حديث المحبين الذين تحاصرهم القيود في كل مكان، وتسعى إلى سحق مطامحهم ظلمات بعضها فوق بعض؛ فيلجئون إليك مؤمِّلين أن تمنحهم المزيد من التعاليم، كسرًا ثوريًّا للقيد، واستعلاءً روحيًّا على الظلمات، وحركة إيجابية صوب المصير الفذ المتفرد.
وما أحرى الهجرة أن تكون هذا الدرس..
وألف سلام على المهاجر .. معلمِنا العظيم" (عماد الدين خليل: خطوات في طريق الهجرة).
[/url]